الطقوس الإنتقالية

(English) Rites of Passage.

كانت المرة الأولى لسماعي هذا المصطلح خلال قراءتي عن الطقوس والشعائر والعادات القبلية التي تمارسها بعض القبائل الأفريقية باختيار بعض الذكور المشرفين على مرحلة عمرية جديدة والإحتفال بهم ليكونوا الجيل الجديد والطموح من الصيادين. حيث يتم إرسال أولئك الشباب الذين تم اختيارهم للغابات غير مجهزين إلا برمح واحد وبمهمة خطرة للغاية وهي اصطياد أسد، ومن تكتب له النجاة من هذه الرحلة ويستطيع اصطياد أحد الأسود في الغابة سيتم قبوله كجزء من مجتمع الصيادين في هذه القبائل. وكانت هذه الإحتفالات تقام لمدة أسبوع كامل بمشاركة جميع أفراد القبيلة كدعم معنوي لأولئك الشباب الطامحين وتشجيعاً لطموحهم باإنتقال لمراتب أعلى وأسمى في قبيلتهم.
وخلال قراءاتي صادفني هذا المصطلح العديد من المرات ولكنه لم يلفت نظري ولم أتوقف عنده متبعة العادة التي يقوم بها الكثير من الناس عند قراءتهم عن الطقوس والشعائر التي كانت تمارسها القبائل البدائية، وهي التركيز على تلك الإحتفالات والطقوس بشكل عام دون التعمق في فهم جوهر ومعنى تلك الطقوس.
وفي الآونة الأخيرة استمعت إلى كتاب صوتي يصف تلك الطقوس الإنتقالية ويبرز أهميتها ودورها في تطوير الذات والشخصية من خلال تصوير ومحاكاة المحطات الرئيسية لحياة الفرد بغاية زيادة وعيه وإدراكه حول المراحل الإنتقالية التي سيمر بها خلال حياته.
وفي الحقيقة فإن هذه الطقوس والشعائر لم تتوقف عند تلك القبائل البدائية، ففي حياتنا المعاصرة كذلك لدينا ما يمكن تسميته بالطقوس الإنتقالية مثل أعياد الميلاد واحتفالات الزواج أو حتى الأعياد والشعائر الدينية. ولكن كذلك الأمر فإن التركيز والإهتمام يكون على هذه الطقوس أو الإحتفالات بعينها أكثر من إعطاء الفرد أدنى دعم أو مساحة لفهم وإدراك هذه المراحل الإنتقالية على الرغم من مساهمة المجتمع بأكمله في منح وتقديم الدعم للفرد.

في حياتنا وعند مرورنا بمحطات ومراحل أساسية مختلفة مثل البلوغ ومرحلة الشباب أو العلاقات التي نعيشها أو حتى الأمراض الخطيرة والتحولات في حياتنا الوظيفية فإن تلك المراحل التي نعيشها تلامس وتؤثر في صميم ذاتنا وشخصيتنا. فذلك الإنتقال بين المراحل الحياتية متلازم وبشكل حتمي مع فقدان أجزاء من شخصياتنا وولادة جوانب اخرى جديدة تنتمي لهذه الذات حيث تتزعزع هويتنا في تلك الفوضى التي نواجهها للعبور وتجاوز ذلك الإنتقال.
وفي مواجهة هذه التحولات والتعامل معها يملك كل منا ميوله وتوجهاته الخاصة فالقليل منا يدركون هذه المراحل ويتعاملون معها بوعي وحصافة، فالناس عادة ما يميلون إما للإضطراب والهلع وبالتالي مقاومة هذا التغيير الذي طرأ على حياتهم بدون معرفة أو إدراك ما يمرون به من مراحل وخصوصاً إذا ما كان هذا التغيير مزعجاً ومثقلاً بالسلبيات، أو إنهم يلجؤون للمضي قدماً في تلك المراحل دون الإكتراث بأي شيء متجاهلين ما يحدث للتخلص من إرتباكهم ومخاوفهم.
وبدون أدنى شك فإني أنتمي للمجوعة الثانية من الناس في تصرفاتهم وتعاملهم مع التغيير.
جميعنا وفي مراحل مبكرة من حياتنا نقوم بتطوير طريقة للتعامل مع التحولات والتغيير الذي نواجهه في الحياة ليصبح هذا التطور الذي قمنا به نمطاً وأسلوب حياة نتبعه ونعيشه ويستمر حتى ندركه ومن ثم نبدأ بتغييره والتحول لنمط أخر لنتبعه في حياتنا.

كان انتقالي لبيروت وبدء دراستي الجامعية هناك إحدى المحطات والتحولات المفصلية في حياتي. فقد نشأت وترعرت ضمن عائلة ملتزمة بوالدين متحفظين حيث كانت حياتي كلها تدور في فلك العائلة ومعتمدة عليها في كل أموري وأجهل كل ما يحيط بي في العالم الخارجي وكان أسلوب الحياة المتبع والمفروض على الفتاة في المملكة العربية السعودية يزيد من تعقيد وصعوبة الأمر.
ومع بلوغ سن السابعة عشر كان على تلك الفتاة الصغيرة الإنطوائية والخجولة ترك الأمان والحياة السهلة في منزل عائلتها والإنتقال بشكل مفاجئ لتعيش بمفردها وتتحول لشخص مستقل بشكل كامل. تقصدت وصف تلك الفتاة بالصغيرة ولم أقل المراهقة وذلك لإن شخصيتي ومهاراتي في ذلك الوقت لم تكن قد تطورت وصقلت لتوصف بشخصية فتاة مراهقة. فقد كانت فترة المراهقة إحدى المراحل الإنتقالية التي لم أتمكن من عيشها ولا الإحساس بها.

أتذكر والدي وهما يتحدثان إلي عن الأمور الواجب علي إتباعها وعن الإسلوب الذي ينبغي على العيش فيه والتصرف وفق مسار محدد لا ينبغي أن أحيد عنه. ورغم حديث والدي المستمر وبنائهم الكثير من الآمال والتوقعات لا أتذكر أبدا إننا تكلمنا مرة واحدة عن الإنفصال أو الإستقلالية والعزلة أو التعرف على أناس جدد والضغوطات والمخاوف من عدم التعايش مع حياتي الجديدة ولا حتى عن أي شيء حول عشرات المخاوف التي كانت تدور في رأسي.
كان المرض والإحباط والإرتباك هي السمات الغالبة ونمط الحياة الذي عشته في السنة الأولى من دراستي الجامعية ملتزمة بغرفتي لا أخرج إلا لحضور المحاضرات الجامعية على عكس ما كان الكثير يتوقع مني في التعايش والتأقلم بشكل جيد مع أسلوب حياتي الجديد. كان هناك خطأ ما لا أعرفه جعلني أواجه تلك المرحلة الجديدة من حياتي بتلك الطريقة المخجلة.
في ذلك العام كانت الدراسة هي الملجأ الوحيد لي لتجاوز وأخفاء تلك الفوضى من المشاعر الممزوجة بين الذنب والخجل والإرتباك، لينتهي العام بتحقيقي لمرتبة شرف في الكلية بنتائج عالية.
وبعد فترة كان لا بد من التأقلم والإستمتاع بالحياة الجديدة التي أعيشها بكل ما تحتويه لتكون تلك التجربة بمثابة ولادة جديدة لشخصيتي وذاتي.

هل كان هناك طريقة أخرى أقل قسوة لخوض تلك التجربة التي عشتها بمزيد من الوعي والإدراك؟
كانت المبادرة بدون تردد أو تباطؤ لخوض أي تجربة تواجهني هي إحدى الأساليب التي اتبعتها في حياتي تلك الفترة، ونادراً ما كنت اكترث لما سيحدث أو أتوقف عن التقدم في ذلك التغييرإذا يكن مرضياً. فقد كان هذا الأمر بالنسبة لي هو شيء لابد من الخوض فيه وتجاوزه بنجاح بدون أي ارتباك أو تشوش، حتى أنني كنت أستغرب أحياناً من القلق الذي كان يبديه أصدقائي بخصوص التحولات التي كنت أعيشها وأتعجب من ردود أفعالهم وحساباتهم الغير منطقة بالنسبة لي.
وعلى الرغم من نجاحي في مواجهة جميع التحولات والمراحل الإنتقالية في حياتي بنجاح وعدم تمكنها برغم صعوبتها من تثبيط عزيمتي أو إيقافي، إلا أنني تعلمت أن أكون أكثر حذراً وحكمة في التعامل مع هذه التحولات. وفي الواقع كنت مجبورة لفعل ذلك فقد كان جسدي يستسلم للمرض في كل مرة أتقدم لخوض مرحلة جديدة أو تحول هام في حياتي. ومع مرور الوقت أدركت إن المرض هو الطريقة التي يتبعها جسدي لإرغامي على التوقف والتفكر أكثر في التحول المرتقب ومنحه المزيد من الوقت.

عادة ما يكون الوقت المستقطع بين نهاية مرحلة ما وبداية أخرى هو أحرج الأوقات وأكثرها حساسية لما يعيشه الشخص من فوضى وارتباك عقلي وعاطفي في تلك الفترة والتي تحجب عنه الرؤية وتمنع عنه التفكير في الحلول. في تلك الفترات نميل للإندفاع والتقدم بخطوات استباقية للأمام وذلك لما تحتويه هذه الأوقات من تشوش وارتباك خلال مراحلنا الإنتقالية.

“تختبرنا الحياة بالكثير من الطرق والوسائل وذلك من خلال حدوث الكثير من الأشياء مجتمعة أو عدم حدوث أي شيء على الإطلاق”
ويعتبر الحرص والتدبر من أهم الأشياء التي ينبغ علينا التحلي بها عند المضي قدماُ في التحولات والمراحل الإنتقالية في الحياة لتجنب التعثر في دوامة يسعتصي الخروج منها. فعلى الرغم من إيماننا بأنفسنا واعتقادنا بقوة شخصيتنا وتماسكها إلا أننا قد ينتهي بنا المطاف إما لإفساد تلك المرحلة الإنتقالية من حياتنا بالكامل أو إننا قد نتجاوزها مثقلين بالكثير من الآثار السلبية التي تؤثر في عواطفنا وتصرفاتنا.

هل تشعر إن شخص ما تعرفه عالق في مرحلة عمرية معينة ولا يستطيع تجاوزها؟ كل شخص قد يعتقد إنه مختلف عن الأخرين وقد تجاوز تلك المرحلة العمرية بنجاح وبدون عوائق. والعديد ممن يعتقدون ذلك هم أناس ذوي مستويات عالية من الذكاء.
بحسب وجهة نظري فإننا نتوقف عند مرحلة عمرية معينة ولا نستطيع الخروج منها في حال عدم تعاملنا ومواجهتنا لتحولاتنا الشخصية في تلك الفترة. فتبقى عواطفنا عالقة في أجسادنا كما العديد من جوانب شخصياتنا القديمة التي لم يتم البوح بها ولا التكامل والإندماج الحقيقي مع الجوانب الجديدة من شخصياتنا يمكن أن يكتمل فعلياً.

ينتابني تساؤل عن كيفية خلق وابتكار طقوسنا الإنتقالية الملائمة لحياتنا المعاصرة والتي قد تساعدنا في تجاوز تلك التحولات الحقيقية والمراحل الإنتقالية في حياتنا وحياة المحيطين بنا. يسعدني جدا القيام ببعض الطقوس التي يرافقها الرقص والطبول والريش ولكني أعتقد إن النقاشات والحوارات الواعية قد تكون بداية جيدة. قد تكون مجرد وجهة نظر ولكني لست واثقة من مدى قابلية مجتمعاتنا العربية للخوض في هكذا نقاشات وحوارات مع ذواتنا والأشخاص المحيطين بنا خلال الدخول بمراحل انتقالية وتحولات جذرية. وعلى سبيل التعميم فإن الميول والتوجه العام هو البقاء صامتاً حيال أي تغيير أو تحول، فإذا لم يتذمر أحد أو إذا كان من المفروض أن لا نتكلم بخصوص شيء ما فمن الأفضل تجاهل الأمر وكأن شيئاً لم يكن.